كتاب جديد
السياسة الفلاحية والتنمية القروية بالمغرب، تقديم نجيب أقصبي، الرباط، 2014.
مقاربة نظرية للمسألة الزراعية
عبد الله صدقي، - ملخص الكتاب كاملا
تعززت الساحة الفلاحية بالمغرب باصدار جديد تحت اسم السياسة الفلاحية و التنمية القروية بالمغرب للباحث عبد الله صدقي بطبوطي الحاصل على الاجازة في العلوم السياسية من جامعة محمد الخامس الرباط.حاصل كذلك على دبلوم الدراسات العليا في التهيئة و التعمير من المعهد الوطني للتهيئة و التعمير الرباط ثم دكتوراه في اعدادالتراب و التنمية المحلية من جامعة ابن طفيل القنيطرة .
تقديم الكتاب
توخيت من خلال تقديم الكتاب، تأطير النقاش حول المسألة الزراعية من جهة والتساؤل حول بعض المفاهيم والمسلمات التي تحكمت ووجهت المعرفة النظرية المتعلقة بالقضايا الفلاحية من جهة ثانية. لا شك أن هذه الأخيرة تكتسي أهمية قصوى بالنسبة لكل المجتمعات العصرية، وخاصة تلك التي تتميز بأوساط جغرافية ذات إرث قروي عريق والمتميزة كذلك بحمولة ديمغرافية كبيرة وبندرة وهشاشة الموارد الطبيعية كالمجال القروي المغربي.
يقع الكتاب في 446 صفحة من الحجم المتوسط. يضم جزئين حسب المواضيع المعالجة.خصص فيه القسم الأول للسياسة الاقتصادية العامة المتعلقة بالقطاع الفلاحي في حوالي ستين صفحة. وأفرد الجزء الثاني للسياسة الفلاحية بجهة الغرب الشراردة بني احسن ومختلف نتائجها المجالية والاقتصادية والاجتماعية في حوالي 326 صفحة.
يتناول عبد الله صدقي[1] موضوعا على قدر كبير من التعقيد والدقة ألا وهو المسألة الفلاحية والتنمية القروية. قام الباحث من خلالها برصد أهم المراحل التي ميزت الساسة الفلاحية بالمغرب منذ الاستقلال كما حاول إبراز آليات تنفيذها على الأرض. اعتمد في ذلك على سرد كرونولوجي لمختلف التدابير والإجراءات التقنية والمالية والمؤسساتية التي همت العالم القروي عامة والقطاع الفلاحي تحديدا. لقد حاول الباحث الإجابة عن إشكالية التنمية القروية من خلال الانطلاق من مرتكزات السياسة الفلاحية العامة (الأهداف والاستراتيجيات المختلفة والمقاربات القطاعية). الفكرة المحورية التي وجهت التصور العام للكتاب وتخترقه من البداية حتى النهاية، تتمحور حول إشكالية تتصف بثنائية غريبة تتمثل في كون جهة الغرب تحتوي على مؤهلات طبيعية واقتصادية كبيرة لا سيما الفلاحية منها هذا فضلا عن تبوئها الصدارة في ميدان الإصلاحات والاستثمارات الهيدروفلاحية في مرحلة ما بعد الاستقلال، لكنها بالمقابل لم تعرف أي تحسن لظروف عيش سكانها. لقد جاء الكتاب عبارة عن تقييم لسياسة التنمية القروية والفلاحية من وجهة نظر باحث منشغل بقضايا التنمية بالجهة التي ينتمي إليها وشديد الارتباط بواقعها
الترابي والاقتصادي من خلال اشتغاله بأحد المؤسسات العمومية المشرفة على تدبير الشأن الجهوي، بحكم عمله بالغرفة الفلاحية لجهة الغرب الشراردة بني احسن.أهله فضوله العلمي وانتماؤه بحكم نشأته بالجهة وموقعه كمدير وكمتصرف بذات المؤسسة إلى الاطلاع على كنه السياسات العمومية من خلال تتبع البرامج والمشاريع المرصودة للجهة وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية المختلفة. لهذا ظل الخيط الناظم لمحاور الكتاب هو التساؤل الحثيث حول حصيلة السياسات الفلاحية من خلال جرد شامل للاسـتراتيجيـات وللبـرامج القطـاعية المعـتمـدة. تبـنى البـاحث منـهـجيـة تعتـمد البـرهـنة والاسـتـدلال والارتكـاز على الأرقـام والإحصائـيـات الرسـميـة سـواء المـتـعلـقة بالتراب الوطني أو بجـهة الغـرب الشـراردة بـني احسن. يحتوي الكتاب على 162 جدولا إحصائيا، ناهيك عن الجداول المرفقة في الملحق. لكل هذه الاعتبارات يعد الكتاب مرجعا حول الفلاحة بالجهة ومادة خام غزيرة للمهتمين والباحثين الساعين نحو تعميق البحث النظري والتطبيقي المتعلق بقضايا التنمية القروية على مستوى الجهة. جاء هذا التأكيد على لسان الأستاذ نجيب أقصبي عند تقديمه للكتاب. يقول”يتميز المؤلف أيضا بمحتواه، بالرغبة غير المسبوقة والحثيثة في التموقع على مستوى الجهة، وعلى مستوى التراب العميق. لا يوجد، حسب علمنا، سوى النزر القليل من الدراسات- هذا إن لم تكن منعدمة تماما – التي اهتمت بالسياسات الفلاحية التي اختارت أن تنكب على التراب الجهوي،…جهة الغرب الشراردة بني احسن، كي يرصد أثرها الملموس وحقيقتها على الميدان”[2].
بالفعل، يقوم الكتاب برصد كل الهفوات والأخطاء والإخفاقات التي اكتنفت السياسة الفلاحية بالجهة. حاول المؤلف إبرازها من خلال مقارنة أهداف البرامج والمخططات القطاعية المنجزة بالنتائج المحققة على الأرض سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو مجالية. ما استوقفني في الكتاب هو الرصد الدقيق والمكمم لنتائج السياسة الفلاحية وطنيا وجهويا. وهذا ما نستشفه من خلال المثالين التاليين. يتعلق الأول بالأمن الغذائي وتعميق التبعية الغذائية، الذي يخلص فيه الباحث إلى العجز والانحدار المسترسل للميزان التجاري الفلاحي المتمثل في ضعف تغطية الواردات. يتعلق المثال الثاني بالإنتاج الصناعي، إذ يركز على ضعف طاقة الإنتاج لوحدات الصناعة الغذائية بسبب التقلبات المناخية(الجفاف والبرودة) أو بسبب مشاكل النقل للمادة الأولية الفلاحية. هذه الأسباب تفسر جزئيا واقع الحال القروي المغربي.
توضيح منهجي
لا شك أن هذه الأسباب تفسر جزء من سلوك الفلاحين اتجاه مصانع التحويل، لكنها لا تعمق النقاش في الأسباب العميقة التي تتحكم في الفلاحة كقطاع تابع ولا في الوظائف والأدوار الموكولة للحيازات الفلاحية. ما يثير الانتباه عند قراءة الكتاب هو أن الباحث لم يتساءل عن خلفية السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة ولا عن الأهداف والغايات العميقة التي أطرت سياسة “الإصلاح الزراعي” كأداة لتنفيذ هذه السياسية ولا عن الظروف الاقتصادية الوطنية والدولية التي أملتها. لفهم وتحليل المجتمع القروي المغربي المركب لا بد من استحضار الثوابت المتعلقة بثقل البنيات الزراعية الموروثة وإكراهات الظروف الاقتصادية الوطنية والدولية(ضعف التصنيع وتحديث الدولة والتبعية الاقتصادية) والعوامل البنيوية والظرفية الكابحة(الموارد الطبيعية وضعف البنيات التحتية والموارد البشرية) وأخيرا رصد رهانات مختلف الفاعلين حول المسألة الزراعية، المكونين من المقاولات الصناعية ومؤسسات القرض والصناعة الغذائية والتجارة الكبرى ومن تركيبة المجتمع القروي نفسه. إدماج هذه الثوابت، يسمح بتشخيص دقيق للواقع القروي وبتقييم موضوعي للسياسة الفلاحية. كما أن عدم استحضار هذه العناصر من طرف الباحث حال دون توفره على مرجعية تؤطره وتساعده على وضع تصور وإطار نظري يوجه ويهيكل البحث. الشيء الذي اكسب الكتاب طابعا توثيقيا، غنيا بالمعارف والمعطيـات الكمـية. يشكل بحـق قيـمة مضـافة ومرجـعا لا غـنى عنه بالنسبة للدارسين والباحثين ومختلف الفاعلين بالجهة، لكنه يحتاج إلى تقعيد نظري ومنهجي.
أهمية المسألة الزراعية
يفسر الاهتمام بالمسألة الزراعية بالعديد من الاعتبارات الموضوعية. لعل أهمها يتجسد في كون المجتمع المغربي كان فلاحيا في الأصل وذو جذور وتقاليد قروية راسخة عبر التاريخ، ثانيا حجم التحولات الاقتصادية والمجالية والاجتماعية التي زعزعت هياكل المجتمع القروي بفعل انتهاج سياسات اقتصادية ليبرالية إرادية في الميدان الفلاحي وبفعل انفتاح المجال القروي على العولمة الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية.ثالثا مكانة الأمن الغذائي أو السيادة الغذائية الوطنية الذي شكل خيارا استراتيجيا وهاجسا دائما للسلطات العمومية، وهذا ما أكدته الأزمة الغذائية لسنة 2008 وتداعياتها على الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي. لقد أدت السياسات الفلاحية المتلاحقة في المغرب إلى مقاربة جديدة للمجال القروي. تمثلت في استعمال مغاير لموارده الترابية وفي خلق شروط اقتصادية جديدة للنشاط الفلاحي وإعادة هيكلة جذرية لترابه ولجهازه الإنتاجي وفي تغيير لوظائفه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. تم تنفيذ هذه السياسة الفلاحية وفق نموذج تنموي جديد. شكل خلال مرحلة ما بعد الاستقلال الركيزة الصلبة والإطار المرجـعي للاختـيارات الكبـرى في ميـدان التـنمـية الفـلاحية والقرويـة. هذا النـمـوذج التنموي الاقتصادي والاجتماعي القطاعي، هو ما يصطلح عليه الفاعلون السياسيون و الباحثون ” الإصلاح الزراعي ” أو “الثورة الخضراء”.
يجب التذكير في البداية، أن سياسة الإصلاح الزراعي في المغرب لم يكتمل التصور بشأنها نهائيا من طرف الدولة إلا بعد عقد من الزمن. كانت في البدء عبارة عن إرهاصات وتجارب متفرقة في مطلع الاستقلال وبدأت بالتبلور تدريجيا عبر اتخاذ إجراءات وتدابير معزولة. كان أولها خلق قطاع تعاونيات الإصلاح الزراعي والحرث الجماعي(عملية التويزة) مرورا بتغيير التوجهات الاقتصادية الكبرى للتصميم الخماسي الأول 1960-1964[3]، الذي ركز على الفلاحة كخيار استراتيجي إلى إنشاء المكتب الوطني للري (1960) والمكتب الوطني للتحديث القروي (1962) ومكاتب الاستثمار الفلاحي (1965) والمكاتب الجهوية للاستثمار الفلاحي(1966) والمديريات الإقليمية للفلاحة، كان آخرها قانون الاستثمارات الفلاحية (1969). شكلت هذه الأجهزة مع المخططات الاقتصادية والاجتماعية الأداة التنظيمية المسؤولة عن تنفيذ وترجمة تدابير وإجراءات سياسة الإصلاح الزراعي على التراب الوطني. كانت مهمتها تحديث العالم القروي، الذي ظل السواد الأعظم منه مرتبطا بإيقاعات وإكراهات العوامل الطبيعية[4] ومثقلا بعجز البنيات الزراعية التقليدية ومتسما بالركود والرتابة بسبب تهميشه وعدم استفادته من السياسة الاقتصادية للحماية، التي وجهت خصيصا لدوائر الاستعمار الفلاحي. لقد أدى إقحام نمط الإنتاج العصري للمجال الفلاحي إلى خلخلة وإحداث التحولات العميقة الأولى للبنيات الزراعية التقليدية. ترتب عنها وجود قطاعين فلاحيين متناقضين من حيث الوسائل والإمكانيات، وإلى هيمنة القطاع العصري على التقليدي. أمام هذا الواقع اختارت الدولة تدبير القطاع العصري الموروث عن الاستعمار الفلاحي، عن طريق الحفاظ عليه وتنمية وإرساء أسسه الاقتصادية وتأهيل القطاع التقليدي بهدف تدارك تأخره وتراكم عجزه الاقتصادي والاجتماعي والمجالي. هذا يعني أن الدولة بأجهزتها التنظيمية والاقتصادية والتشريعية ستقوم بشكل إرادي بتدبير وتصريف المسألة الفلاحية في مجتمع يعرف تحولا لجهازه الإنتاجي ولنظامه الإداري والتعليمي ولتركيبته الديمغرافية. ستقوم فيه الدولة كفاعل اقتصادي وسياسي واجتماعي بدور بنيوي ومهيكل لمجموع التحولات الكمية والنوعية التي سيعرفها المجتمع القروي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تدابير وإجراءات سياسة الإصلاح الزراعي مست قطاع نشاط يختلف عن باقي الأنشطة الاقتصادية الأخرى. لكون النشاط الفلاحي شديد الارتباط والتأثر بإيقاعات العوامل الطبيعية. الأنشطة الفلاحية محكومة بحدود إيكولوجية موضوعية كتوفر الماء والتربة والطبوغرافية الخ…من جهة ومرهونة بحدود تقنية واقتصادية وبالإرادة السياسية للدولة كتوفر رأسمال وطني وصناعة وطنية والتحكم في إكراهات الأوساط الطبيعية كالماء من جهة ثانية ومحكومة كذلك بحدود اجتماعية، تتعلق بوضعية السوق الداخلية والخارجية أي بالقدرة الشرائية من جهة ثالثة. وهنا لا بد من التساؤل عن الكيفية التي ترجمت بها سياسة الإصلاح الزراعي على التراب؟ وما هي طبيعة محتوياتها الاقتصادية والاجتماية؟ أو بعبارة أدق ما هو المعنى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي أعطته الدولة للإصلاح الزراعي؟ هل هو مجرد قرارات اقتـصادية وتقنـيـة معـزولة؟ أم أنه عبـارة عن سيـاسـة هـادفة، تقوم بوضع مصـالح اقتـصادية مـحط نزاع وصـراع كما تضـع القـوى الاجـتماعية الـتي يعـنيها مـوضوع ريع الأرض في حركـية وديناميكية.
تهدف الدولة من ورائه تحقيق المشروع المجتمعي من خلال نقل البنية الزراعية التقليدية إلى بنية زراعية عصرية.إذن القرارات السياسية للدولة ليست اعتباطية ومستقلة بل هي نتاج لضغوطات اجتماعية؛ أي تشكل نتاجا لنظام من علاقات القوة المعقدة أي لموازين القوي داخل المجتمع.
3-المقاربات النظرية للمسألة الزراعية
تكتسي المسالة الزراعية في دول العالم الثالث وفي المغرب تحديدا أهمية خاصة، نظرا لمكانة الفلاحة في الاقتصاد الوطني. الشيء الذي بوأها مركز الصدارة في المخططات الاقتصادية الوطنية وفي أجندة الحكومات المتعاقبة وكذا في اهتمامات الباحثين. يستشف هذا، من خلال حصتها الكبيرة في الاستثمارات العمومية وفي عدد المؤلفات ومن خلال الحيز الذي احتلته في الإنتاج العلمي عامة. فالمؤلفات المتعلقة بالإصلاح الزراعي في أمركا الجنوبية لوحدها تكفي لإسقاط رفوف الخزانة الوطنية الفرنسية. تستشف المكانة الخاصة كذلك من الأهداف والرهانات الموكولة للإصلاح الزراعي وكذلك من خلال التحديات المطروحة على الاقتصاد الفلاحي والمتمثلة في ضمان الشغل وفي تحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي والسيادة الغذائية.
تحكمت في هذا الزخم من الأدبيات الجغرافية والاقتصادية العديد من المقاربات. اختلفت من الناحية النظرية والمنهجية، والتي أقل ما يقال عنها أنها محيرة ومغلطة. يعتريها الكثير من المنزلقات المنهجية وما يترتب عنها من أخطاء وغموض معرفي يحجب عنا الواقع الفلاحي. إذ يتعذر على القاريء العادي إدراك التمفصلات الأفقية والعمودية لمختلف الفاعلين المتدخلين في المجال الفلاحي. لتوضيح الصورة، يمكن أن نميز في هذه الأدبيات ثلاث أنواع من المقاربات:
3-1- المقاربة الوصفية: عبارة عن جرد للمعطيات. تزداد أو تنقص من حيث الدقة والتفاصيل المتعلقة بالإصلاح الزراعي. تتضمن مستويين، مرحلة ما قبل الإصلاح وما بعده.
3-2- المقاربة التحليلية: تحاول تفسير من هم المستفيدون من الإصلاح وما هي طرقه وما هي نجاحاته وإخفاقاته ومآزقه؟. تتضمن هذه المقاربة كل مستويات التحليل الممكنة.بدء بالتحليل السطحي والغامض إلى التحليل الميتافيزيقي، عندما لا تكون له صلة بالواقع المحسوس. كما تتخذ التحاليل طابعا تقنيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو سياسيا الخ…
3-3- المقاربة التـقـيـيمـية: عبارة عن حكم قيمي، غالبا ما يخضع حكم القيمة هذا للتصورات وللمنطلقات العقائدية بطريقة واعية أو لا واعية للمؤلف. يترتب عن هذه المقاربات وجهة نظر معيارية، تتضمن اقتراح تدابير وإجراءات تتعلق بتغيير أو بتصحيح مسار الإصلاح الزراعي.
ينجم عن هذه المقاربات، نقاشات سواء بداخل الجامعات أو بداخل المناظرات السياسية وبين الفاعلين أنفسهم. لكن غالبا ما تتسم هذه المناقشات بتعدد الأطروحات الغامضة والمتناقضة والتي كثيرا ما تقوم بحجب الحقائق وبتجنب الدقة العلمية. يعود السبب في ذلك، إلى الإشكالية الزراعية من جهة وإلى أدوات المعرفة المستعملة في تحليلها من جهة ثانية. أول حقيقة هي أنه لا يوجد علم خاص بالمسألة الزراعية. يمكن معالجة هذه الأخيرة من زوايا متعددة، قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو تاريخية الخ…كل علم يضفي عليها أدوات وقواعد المعرفة الخاصة به. الكل يعلم أن العلوم لا ترتكز على مسلمات وعلى جهاز مفاهيمي متفق عليه، كما هو الشأن في العلوم الحقة. ثانيا يأتي الغموض من عدم تفسير وشرح أسس الاستدلال ولا المناهج المستعملة في التحليل، التي تبقى مضمرة وضمنية وتنتمي في أحيان كثيرة لخلفيات نظرية متباينة.
لتفادي الغموض والمقاربات المتناقضة التي لا تساعد المهتمين بالإصلاح الزراعي من تكوين نسق فكري منسجم، يحصنهم ويمنعهم ويتيح لهم إمكانية رصد واكتشاف الانتقائية وعواقبها في مجال الدراسات الفلاحية، يلزم توضيح المنطلقات والمسلمات. نقول بأن الإصلاح الزراعي يكون مجاله المعرفي هو الحياة الاجتماعية، التي يتم فيها نسج وربط علاقات اجتماعية، يكون مصدرها علاقات الإنتاج وعلاقات التملك والتوزيع، على اعتبار أن كل الأنشطة البشرية وإنتاج الثروات المترتبة عنها نابعة من هذه العلاقات. وبداخل هذا الزخم من العلاقات الاجتماعية، ما هو دور الدولة كمؤسسة وكفاعل اقتصادي وسياسي واجتماعي في تحول الهياكل الزراعية وتوجيهها؟ ما هو موقف كافة الفاعلين والمتدخلين في الشأن ألفلاحي سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؟
هذا ما حاولت الإجابة عنه بعض الأطروحات التي اشتغلت على المسألة الزراعية. تتفق كلها حول تطور الرأسمالية في الفلاحة، لكنها تختلف حول أشكال وطرق تطور نمط الإنتاج الرأسمالي. يمكن اختصار هذه المساهمات النظرية المتعلقة بالعلاقات بين الاقتصاد الفلاحي والرأسمال في أطروحتين:
- الأطروحة الكلاسيكية: تركز هذه المقاربة على نسق تركز الرأسمال العقاري والقوى المنتجة التقنية والاقتصادية الأخرى. الشيء الذي سيترتب عنه تكديح للفلاحين وتطور لعلاقات التأجير في القطاع الفلاحي. يعنى هذا أن الملكية الكبرى ستعطي ضربة قاضية للملكية الصغرى.
- الأطروحة الحديثة: تضم مجموعة من المقاربات. تختلف حول أهمية تغلغل الرأسمال في القطاع الفلاحي. يؤمن التيار الأول بسيادة وتعدد أنماط الإنتاج الفلاحية وبتراجع الرأسمال في القطاع الفلاحي وفي المقابل بالتركز الكبير في الصناعة والأبناك والصناعات الغذائية. هذا الطرح يتنافى طبعا مع النظرية الماركسية التقليدية التي تجزم باختفاء الملكية الصغرى لفائدة الملكية الكبرى الرأسمالية.
أما التيار الثاني فيؤمن بالتطور المزدوج والمتزامن لنمط الإنتاج الرأسمالي ولأنماط الإنتاج الفلاحية والتعاونية في الفلاحة الصغرى. يظهر هذا التطور للوهلة الأولى كأنه مناقض لقانون التراكم والتركز الرأسمالي، لكن الحقيقة هي غير ذلك. فمن جهة هناك إنتاج وترسيخ لأسس وقواعد الرأسمال الفلاحي، الذي يتم عن طريق تكديح الفلاحين الصغار، ومن جهة ثانية هناك إنتاج وإعادة إنتاج الفلاحة الصغرى والحفاظ عليها كنمط الإنتاج الفلاحي والتعاوني مثلا. يتلخص محتوى النظرية في كون نمط الإنتاج الرأسمالي في الفلاحة يتطور ولكن بأشكال مختلفة ليس فقط بواسطة العمل المأجور وإنما يكون عن طريق هيمنة الرأسمال بواسطة سياق الاستهلاك والتوزيع أكثر من إقامة علاقات إنتاج رأسمالية في الفلاحة. بمعنى أنه سيترك مهمة جزء من الإنتاج الفلاحي للفلاحين الصغار والمتوسطين المدمجين كليا في اقتصاد السوق والموجودين تحت وصاية المركب الصناعي الفلاحي. يقوم هذا الأخير على تصنيع الفلاحة والضغط على العمل المأجور وكذلك على قوة العمل العائلية (إعادة إنتاج الحيازات الصغرى) وعلى أثمان المنتوجات الفلاحية عن طريق الفلاحة التعاقدية. بهذه الوسيلة سيتقلص مفهوم الفلاحة كقطاع مستقل، إذ لم يعد يشكل إلا أحد الفروع الأربعة التي تهم مجموع السياق الرأسمالي للإنتاج والتوزيع الذي يتحكم فيه المركب الصناعي الفلاحي. يتكون هذا الأخير من “العاليـة” المـتمثـلة في الصنـاعات الأسـاسيـة ومؤسـسات القـروض (المـواد الصنـاعـيـة الوسيطة والتمويل الموجه للفلاحة) ومن “السافلة” أي الفلاحة نفسها ومن “سافلة السافلة” أي الصناعة الغذائية القائمة على تحويل وتكييف المادة الأولية الفلاحية، وأخيرا من مؤسسات الخزن والتوزيع. تشكل هذه الفروع الأربعة حسب أرويو كونزالو سلـسلـة محكمـة الحـلـقات للنـظـام الصنـاعي الفلاحي. ينتج تقلص القطاع الفلاحي حسب إيـبرنون وبرونو عن تكثيف العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الرأسمال الصناعي والمالي في العالية ومع الرأسمال الصناعي الغذائي في السافلة، والسيطرة المتزايدة للصناعة على الفلاحة. حيث تجد الفلاحة نفسها مدمجة في سياق حركة تدويل الرأسمال على الصعيد الدولي. إذ يتم إدماج الفلاحة بطريقتين: الإدماج المباشر أو العمودي أو ما يسمى بالتملك المباشر للقوى المنتجة الطبيعية والاقتصادية والتقنية أو عن طريق نظام التعاقد في الفلاحة بين الفلاحين من جهة والرأسمال الصناعي الغذائي الوطني والدولي.
خاتمة
لا تعتبر مقاربة التنمية الفلاحية والقروية مسألة تقنية فقط. بل تتحكم وتتفاعل فيها مجموعة من المعطيات المعقدة؛ بعضها ظاهر وبعضها خفي ومنها موروث ومنها ما هو حديث. ترتبط التنمية بشكل جدلي بواقع الموارد الطبيعية والاقتصادية وبقدرة المجتمع التقنية وبطبيعة الفاعلين المتدخلين في الشأن التنموي.
—————————————–
البيبليوغرافيا
- الكيحل أحمد، (1988) الصناعة الفلاحية الغذائية باللكوس وانعكاساتها المجالي والاقتصادية والاجتماعية، دبلوم الدراسات العليا، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط.
- M.Bruneau & J.M. Imbernon (1980), « Le Système Agro-industriel et l’Agriculture Contractuelle dans les Campagnes du Tiers Monde », Revue Espace Géographique n° 3, pp. 211-212.
- Tarras Layachi (1986), Agriculture et Capitalisme dans le Périmètre du Loukkos, Diplôme d’Etude Supérieur, Faculté des Sciences Economiques, Juridiques et Sociales, Université Med V, Rabat.
[1]عبدالله صدقي باحث في قضايا التنمية المحلية. له عدة مؤلفات ذات الصلة الوثيقة بالشأن المحلي والجهوي. للكاتب اهتمامات متعددة، يتميز بحضور دائم في الشأن الجمعوي والحقوقي والثقافي.
[2]قدم الكتاب الباحث في العلوم الاقتصادية الأستاذ نجيب أقصبي، معهد الزراعة والبيطرة الحسن الثاني، جامعة محمد الخامس بالرباط.
[3]تبنت الدولة المغربية في أول مخطط خماسي 1960-1964 نسختين. تبنت في النسخة الأولى المسماة “التصميم الأبيض”، الذي تمحورت اختياراته وأهدافه الكبرى حول تنمية الصناعات المصنعة. أما النسخة الثانية المسماة “التصميم الأزرق” قامت فيه الدولة بمراجعة التوجهات الاقتصادية الكبرى بالتركيز على القطاع الفلاحي وعلى صناعة تعويض الواردات.
[4]يقسم المجال الطبيعي المغربي تبعا لإمكانياته الفلاحية إلى ثلاث مجموعات كبرى: المنطقة الصحراوية القاحلة(560.000 كلم2) أي 79% والمنطقة شبه الجافة (100.000كلم2) أي 14% وأخيرا المناطق الرطبة وشبه الرطبة (50.000 كلم2) 7% من التراب الوطني.
المصدر بتصرف :
أحمد الكيحل رباط الكتب
أزمور 24
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق