زاوية «سيدي حمزة» إقليم ميدلت

تضم مخطوطات نفيسة يعود أقدمها إلى حوالي 1000 عام

« اليوم23» تزور مكتبة حاول البعض شراءها بأي ثمن، تحوي مخطوطات وذخائر نفيسة عمّرت ألف عام، كما وقفت على كنوز سُرقت وضاعت بفعل الإهمال و»جبروت السلطة».
في مكان خلف جبل «العياشي»، يرقد جثمان من سُميّ أحد أشهر قمم الأطلس باسمه، تختبئ زاوية عمرها 475 عاما. كانت لوقت قريب تضم بين جدرانها الطينية 160 أسرة. لكن اليوم لا تزال 9 أسر فقط، تقاوم النسيان الذي قهر التاريخ. بين كل هذا، مكتبة تفوح منها رائحة الأصول، تنعت بمكتبة «أبي سالم العياشي»، حيث تحوي كتبا ومخطوطات جمعت من أقصى بقاع العالم، أقدمها يعود إلى قرابة 1000 عام.
نطرق باب التاريخ المنسي بين أحضان أقصى جبال الأطلس المغربية. المكان «زاوية سيدي حمزة»، التي اشتهرت في الماضي كمنارة للعلم وتجميع الكتب النادرة في الفقه والعلم والأدب والتاريخ، بل تضم بين أحضانها مخطوطات لعلماء مغاربة وثّقوا قبل 450 عاما لحركة النجوم والكواكب.
نطرق باب التاريخ لننقل واقعا همشته كل المصالح المكلفة بحمايته من الانقراض. نقف لنتحدث على لسان العارفين به والوارثين لسره عن مشاهد من الزمن الغابر. أكوام من التراب متناثرة هنا وهناك، مسالك مظلمة زادت بطش إهمال المسؤولين من ظلمتها. أطلال تقاوم وحدها لتخبر زوارها بأن من مروا يوما من هنا كان لهم شأن في الشرق والغرب. ونقلوا عبر شراء الكتب الأصلية لأشهر علامة عصرهم كنوزا لا تفنى، حاول كثيرون شراءها بالملايين،في ما حاول آخرون سرقة ما بقي منها نهارا جهارا، فيما نجح بعض النافذين في سرقة محتويات مكتبة الزاوية، إما عن طريق التحايل، أو عن طريق استعمال السلطة والاحتماء بالمستعمر.

قلعة «سيدي حمزة» 
اختار «أبو سالم العياشي» – وهو اسم شهرته – هذه الزاوية الموجودة بين فجي جبلين مكانا للاستقرار وبناء منارة للعلم. لم يكن اختياره للمكان طواعية كما يروي ذلك «علي بن سعيد بن عبد الرزاق»، شيخ الدوار، الذي يحمل في ذاكرته تاريخ المنطقة ويرويها شعرا، بل كان الاستقرار هنا هروبا من بطش الحاكمين خلال تلك الحقبة تجاه ما تبقى من الأدارسة.
وتقول الرواية المحلية «إن سبب وصول مؤسس الزاوية إلى هذه البلاد السعيدة هو هروبه من أبي عطية في فاس، والذي كان مشهورا بمطاردته وبطشه للشرفاء الأدارسة، ومن بينهم «أبي سالم العياشي»، الذي انتقل وأسلافه من عاصمة العلم نحو مدينة «فكيك»، حيث حطوا الرحال بعدها بمنطقة «أيت عطوش»، ثم منطقة «تازروت» آخر محطات هروبهم، ليستقر بهم المقام هنا»، وكان أول من وصل إلى ما يعرف اليوم بزاوية سيدي حمزة، «محمد بن أبي بكر»، جد مؤسس زاوية «سيدي حمزة» في القرن العاشر هجري، الموافق للقرن السادس عشر ميلادي، إذ لم يتبق من هذه المعلمة سوى ما لم تستطع الطبيعة النيل منه. 
لا يبدو لك مكان الزاوية أو «القصر»، كما يسميها أهل المنطقة جليا عند وصولك إلى الطريق المؤدي إليها، والسبب، حسب العارفين بتاريخها، هو اختيار المكان والطريقة التي شيدت بها أسوارها ومنازلها الطينية حيث تحكم فيها عامل الحيطة والحذر، لكن ما إن تتجاوز القنطرة على الوادي، الذي يشق الطريق نحوها، حتى تظهر لك معالم منازل، منها من استسلم وانهار بسبب غياب الترميم والصيانة، ومنها من لا يزال شامخا يقاوم الزمن، يأوي داخله تسع أسر رفضت هجرة ما ورثته عن أجدادها.
قبل مدة قصيرة كانت منازل الزاوية تضم 160 أسرة، ينشط كل أفرادها في مجال الفلاحة وخاصة جني وبيع الأعشاب الطبية. وأنت تقف بمحاذاة هذه الزاوية تسمع خرير المياه عند كل ركن من أركان المنطقة، لا ينقطع طيلة السنة، إذ تسهل عملية وصوله إلى كافة المنازل عبر قنوات ثم حفرها قبل أربعة قرون ونيف بعناية وتصميمات بديعة، لا يختلط فيها الماء العذب النقي بالمياه العادمة الآتية من المنازل والحظائر المتناثرة.
قبل سبع سنوات من زيارة « اليوم24» لهذا الفضاء التاريخي المنسي، قامت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بإقفال مسجد الزاوية القديم، وفي هذا السياق يحكي يوسف، الشاب الذي رافقنا خلال الجولة المسائية الأولى، أن حجة الإغلاق كانت بغرض إصلاح دعاماته وترميم أركانه، فهل ثم فعلا ذلك؟. إن ما وقفت عليه « اليوم24» يقول العكس. 
يضم المسجد القديم بين دعاماته واحدة استقدمها بانيه من مكة، وكان يضم يوما جامورا من الذهب معلقا على سقفه تمت سرقته، يُقال إنه بِيع بثمن  خيالي في فرنسا بعد تهريبه خلال الفترة الاستعمارية. هذا، ويعد هذا المكان المقدس عند أهل المنطقة رفقة ضريح «أبي سلام العياشي» وابنه «حمزة» وبقايا القصر بصيص أمل لتغيير واقعهم المرير، فهم يعولون على النهوض بأوضاعهم المعيشية عبر التعريف بالمنطقة سياحيا وثقافيا، من خلال ترميم الأطلال التاريخية دون تشييد بنايات دخيلة على المعمار التراثي والأصيل لمنازل أهل الزاوية.   

سفر 1000 سنة
الخزانة أشبه بمغارة علي بابا، خلف خمسة أبواب مغلقة بإحكام، ثلاثة منها صُنِعت من عود الأرز لمقاومة الرطوبة، واثنان من الحديد لحماية الكنوز المخبأة خلفها، بعد أن سقطت أسطورة حماية المكان بطلاسيم كُتبت باللغتين العربية والعبرية الظاهرة على عمود محروق معلق فوق الباب الأول، والتي حمت الكتب والمخطوطات – كما يعتقد حماته من بني البشر- من الفئران والحشرات، لكنها لم تحمها من جشع وبطش أبناء جنسهم. 
جشع وإهمال
يحكي «سليمان بن عبد الله» كيف اتخذ قرار تثبيت البابين الحديدين في وسط الممر إلى غرفة المكتبة، «لقد تعرضنا لمحاولة السرقة نهارا، لذلك اتخذ الورثة قرار تعويض الأبواب المصنوعة من الخشب بأخرى مصنوعة من الحديد». محاولة السرقة تظهر جلية بسبب الحفرتين اللتين تركهما اللصوص خلفهم مكان الأقفال، وإن باءت هذه المحاولة بالفشل، فسابقات مثلها نجح منفذوها في السطو على كنوز المكتبة إما بالحيلة أو بضغط من السلطة، فكيف ثم ذلك؟
من بين الكتب الثمينة التي سُرِقت من مكتبة «أبي سالم العياشي»، مجلد كتبه «الإمام مالك» بماء الذهب وتم تسفيره بجلد الغزال، تمت سرقته خلال فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب، دون أن تعرف وجهته بعد ذلك، بالإضافة إلى اختفاء ثلاثة عشر كتابا. وكما يروي «سليمان» الواقعة، فإن شخصية نافذة (ع.ك) وهو من أهل فاس، كان قد زار المنطقة وطلب استعارة تلك الكتب لغاية علمية. في البدء لم يشأ جد «سليمان» منحها إياه، لكن بعد الضغوطات القوية من طرف قائد المنطقة انصاع لطلبه، ما ترتب عنه اختفاء تلك الكتب الثمينة والنادرة إلى يومنا هذا.
واقعة أخرى كانت ستضيع معها كل الكتب والمخطوطات، حين حاول قائد الزاوية في فترة الاستعمار (ع.ب.ع) بيع الكتب جملة واحدة لأحد يهود المنطقة الذي كان يستقر بمدينة «ميدلت»، هذا الأخير جلب عربة كبيرة لنقل الكتب إلى منزله، لكن مقاومة الجد «عبد الله بن عبد الله»، حالت دون اتمام العملية، حيث دفعته الحادثة لطلب الحماية، قبل «تُحبّس» المكتبة كي لا تضيع كنوزها، خطوة حمتها كذلك من جشع الورثة الذين طالبوا بعد موت الجد «عبد الله بن عبد الله» بنصيبهم من التركة بعد بيع الكتب والمخطوطات.
ولم تكن محاولة شراء مجموعة من اليهود لمكتبة «العياشي» الوحيدة، بل سبقتها عمليات أخرى نجحوا فيها في اقتناء كتب بكل من مدينة «الريش» (نواحي مدينة الراشدية)، وكذلك محتويات مكتبات أخرى كانت موجودة بالزاوية، وفي منطقة «تازروت».
تحتوي المكتبة اليوم على 1200 مخطوطة ومجلد وكتاب، بعد أن ضاع ثلث ما كانت تحويه في السابق، وما لم يتم السطو عليه من طرف الطامعين، أتلفته مياه الأمطار. 
قادنا «سليمان بن عبد الله»، الحفيد الثامن لـ «حمزة بن العياشي» مؤسس المكتبة، إلى غرفة صغيرة تضم خزانة صُنعت بدورها من خشب الأرز، وسبع خزانات أخرى من الحديد للحفاظ على ما تبقى من الإرث العلمي والتاريخي الذي تضرر على مر السنين بفعل تسرب الماء عبر الشقوق في السقف، صندوق خشبي في ركن إلى جانب عود خشبي، داخله نعل «حمزة بن العياشي» و»طقيته»، بالقرب منه «قلة» من العود، وآلة طباعة قديمة لازالت تفوح منها رائحة المداد، وقنديل كان ينير به عتمة ظلام الباحثين عن العلم. 
بالإضافة إلى ذلك تحوي المكتبة مصاحف قديمة بعضها تم جلبه من الشرق، ومجلدات في الفقه والسنة وتفسير أحكام القرآن والصوفية والفقه، وكتب في اللغة والنحو والأدب ودواوين شعرية والمقامات والأحكام، وكتب تعديل التوقيت والطب والتاريخ وعلم الفلك، بل وتضم كذلك، مخطوطات في قواعد الرياضيات والفيزياء والكيمياء الأولى، إذ يرجع تاريخ هذه الكتب إلى 1000 سنة خلت (10 قرون) وأحدثها يعود لأزيد من أربعة قرون، منها الأصلي ومنها المنسوخ، تضم مجلدات من 20 جزءا ومجاميع فيها من خمسة إلى عشرة كتب. 
كنز معرفي 
ناولنا «سليمان» مجموعة من الكتب، استطعنا من خلالها توثيق بعض صفحاتها بالصور، حيث أطلعنا اثنين منها على الدكتور حسني هشام، الذي رافقنا خلال الزيارة، مؤكدا لنا أهمية ما بين أيدينا، واحد منها يتحدث عن بنية الدماغ وطريقة علاج علله بأدق التفاصيل، والثاني يخبر قارئه على طرق العلاج بـ»الكي» لمختلف مناطق الجسم، يقول الدكتور هشام خلال الجلسة: «من محتويات هذه المجلدات من لا تزال تحتفظ بقيمتها العلمية بيننا إلى اليوم، إنها تحتوي على تعليمات في الإسعافات الأولية جد حديثة، حيث كان يعمل بها رواد الطب الحديث»، ولإعطاء مثال على صحة ما تحتويه، قرأ علينا فقرة تتحدث عن طريقة التدخل لإسعاف المصابين بكسور أو التواء كما جاءت في كتاب ثالث خاص بطب العظام، إنها فقرة تصف بدقة مُبهرة عملية الإسعاف دون إلحاق ضرر بالمصاب، بالإضافة إلى وصفات تقليدية تُحضر من الأعشاب والنباتات والتوابل، لازالت تستعمل إلى اليوم في صناعة الأدوية الحديثة.
ومن بين الكتب التي تحويها المكتبة، مخطوطات تُوثق لعمليات الحساب الرياضية القديمة، قواعد في الجبر والهندسة، جداول الحساب وحل المعادلات الرياضية، ودروس باللغة العربية سبقت عصرها بكثير، لكن يبدو أن مصيرها اليوم أقل حظا مما كان عليه يوما. 
واطلعت «اليوم24» على كتب ابن عطاء الإسكندري، من بينها كتاب «الحكم» و»الكواكب الزاهرة»، مكتوبة بالخط المصري القديم، كما اطلعت كذلك على كتب «السيوطي» و»عبد الوهاب الشعراني» وغيرهما من أعلام القرون الهجرية الأولى، أغلبها أصلية، استقدمها «العياشي» وابنه «حمزة» من المشرق، ومن بينها كتاب يحكي عن سيرة الرسول محمد (ص)، مصدره أرض الشام وعمره 700 سنة كما هو موثق على صدر صفحته الأولى.  
خلال زيارتنا للقصر عاينا بناية عصرية شيدتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، سُميت بـ»مكتبة العياشية»، يقال إنها ستكون المحتضن المستقبلي لما تبقى من ذخائر وكنوز الزاوية العلمية والفقهية والأدبية، لكن ما هو مصير الأصل؟ لا جواب إلى حدود الآن، إذ أن واقع الحال يخبر العابرين من هنا أن مصير الغرفة الصغيرة التي احتضنت مجلسنا سيكون كحال باقي المنازل والمرافق المنهارة، داخل رقعة جغرافية، لو شاء المسؤولون في وزارة الثقافة وزملاؤهم في وزارة الأوقاف أن يجعلوا منها منارة سياحية وعلمية، لقدموا بذلك خدمة اقتصادية واجتماعية لأحفاد من صنعوا مجد «زاوية سيدي حمزة». 
 المصدر : اليوم24

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة 2013 | أعلن معنا | يوسف ادعبد االله | خريطة الموقع | سياسة الخصوصية